03 – ابحث عن المنطق

|| ابحث عن المنطق ||

جلستُ على الكرسي مطأطئًا رأسي أراقب قدمي التي تهتز بجنون، وصورٌ مما حدث قبل ساعات تجتاحني بين الحين والآخر، منظر رأس المرأة المثقوب، وإحساس دمها المنتشر على جلدي، أفقدني الإحساس حتى بالرصاصة التي انتزعتها الطبيبة من كتفي، رفعت رأسي نتيجة صراخ المحققة التي ظلت تصرخ منذ فترة، أمطرتني بوابل من الأسئلة التي ما كنت لأعرف الإجابة عليها حتى لو وجدتُ الطريق إلى استعادة السيطرة على نفسي، فكيف لي أن أعرف مثلا:” أين خبأتُ سلاح الجريمة” فلم أمتلك يومًا سلاحًا غير جرثومة الانفلونزا ووصفة صلصة دجاج أمي التي تستنزف روحك بالتدريج، بقيت كالأبله فاغرا فاهي و أنا أراقب وجه المحققة الغاضب، وشعرها المحمر، أهو مصبوغ؟
بدت نافذة الصبر عندما لم أجب على أي من أسألتها كما بدأ رفيقها يمارس دور الشرطي الطيب و يحاول عقد مساومة معي، من منطلق أن الصمت سيزيد من موقفي سوءًا، أوليس التزام الصمت من أبسط حقوقي؟ عندما لم أتجاوب معه، عادت هي تصرخ فيّ تطالبني بالإدلاء بأقوالي الآن وإلا فستحتجزني على ذمة التحقيق.

“لم تعثروا على سلاح الجريمة، ليس لديكم من الأدلة ما يكفي لحبسي”
اعتقدت أنني كنتُ أفكر بتلك الجمل فقط حتى رأيت تعابير وجهها تتغير، حينها علمتُ أنني نطقتُ بها فعلا، كادت أن تستكمل صراخها علي لولا أن قاطعها دخول رجلٍ عرّف عن نفسه بأنه المحامي الخاص بي، جلس بجانبي وأكمل كلامه الموجه لهم قائلًا: “لا يوجدُ سببٌ يجعلكم تشتبهون بموكلي -أي أنا- سوى وجوده في نفس الغرفة التي حدثت فيها الحادثة، كما أنكم لا تملكون سلاح جريمة”، حاولت المحققة مقاطعته لكنه لم يمنحها الفرصة بل أكمل قائلًا: “موكلي شاهدٌ على الجريمة وليس متهمًا، وكما هو واضح لديكم من التقرير الطبي أن الرصاصة أصابته من مدىً بعيد، سأكون مسرورًا باستكمال استيضاح حقائق كانت من ضمن عملكم أنتم، لكن وضع موكلي الصحي الآن لا يسمح له بالاستمرار في هذه الجلسة، أستميحكما عذرا، فقد دُفعت كفالته قبل قليل، ولا يوجدُ ما يمنعه من الخروج الآن”.
نهض من على كرسيه عندما أنهى كلامه وأشار لي لكي أنهض أنا أيضًا، حاولت أن أتحدث معه وأسأله ونحن نمشي في أروقة المركز، لكنه لم يمنحني الفرصة للكلام كما فعل مع تلك المحققة قبل قليل، بل سبقني في الكلام قائلًا: “سنتكلم عندما نصل”، عندما نصل؟ إلى أين؟!

بقيت شارد الذهن وأنا بجانبه في سيارته، هناك بعض الأمور التي لم ألقِ لها بالًا نتيجة الصدمة، أهمها هو أن المجرم كان طفلًا لا يتعدى العاشرة من العمر، طفلٌ تحمّل وزن طاولةٍ خشبيةٍ وضربة إناءٍ زجاجيٍ على رأسه! كما أنني لم أسمعه يتحدثُ أبدًا، ولم ألمح شبهًا بينه وبين أخته، يجيد استخدام المسدس و بارع في التصويب، لم ألتقِ يومًا بطفلٍ مثله، إن كان يوجدُ مثله أصلا!
أخرجني من تفكيري توقف السيارة، التفت إلى النافذة لأتبين المكان الذي أتينا إليه، كان مكانًا متوغلا في الغابة، يبدو أن عمق التفكير ألهاني عن وعورة الطريق، نزل المحامي ومشى قليلًا ثم التفت إليّ باستغراب، “ما الذي تفعله؟ انزل!”، خرجتُ ولحقتُ به إلى بحيرةٍ لم أتبين حجمها إثر الظلام، بدا وكأنه سيخطو داخل الماء، عندها توقفت واكتفيت بالنظر إليه، لكن بدا أن توقفي لم يعجبه، إذ عاد إلى ودفعني داخل البحيرة، أغلقت عينيّ وأعددتُ نفسي للإحساس ببرودة الماء، خطوت بضع خطوات بعد، لكن لم أحس بالبلل، فتحتُ عيني لأجد نفسي أمشي على الماء! خرجت مني صرخة بلهاء نفد على إثرها صبر المحامي الجليل، فسحبني من ذراعي إلى منتصف البحيرة، وعندها فجأةً اعتراني الإحساس الذي يأتي عندما تغطس نفسك في الماء، أقصد كما لو أنني اجتزتُ حاجزًا يقع بين وسطين، لا أعرفُ كيف أشرحُ ذلك الشعور بالضبط، لكن كل ما أعرفه هو أن جرح الرصاصة في كتفي فُتح ثانية عندما طرحني رجلان أرضًا فور وصولي إلى ما يشبه غرفة العمليات، صرختُ فيهم واستنجدتُ بالمحامي النذل الذي عدّل نظاراته وأدار لي ظهره وخرج.

 ساعاتٌ طويلة أمضيتها ما بين الحُقن والصعق بالكهرباء وأنا مقيد على السرير، ثم وُضعت في غرفةٍ خاليةٍ تمامًا، تُغيّر إضاءاتها بين الحين والآخر، بعد أن جردوني من ثيابي وألبسوني ثياب مستشفى، لم يرُد أحد على صراخي وأسئلتي، آهٍ لو رأيتُ ذاك المحامي مرةً أخرى، لغرستُ شظايا عدساته في عينيه، ثم استمتعتُ بمنظره عندما أصعقه بالكهرباء حتى يتمنى الموت.
عندما انتهى جدول التعذيب على ما يبدو، أخذوني إلى غرفة صغيرة برتبة زنزانة، انهرتُ على السرير فور رؤيتي له، أغمضتُ عينيّ ولم أفتحهما إلا في اليوم التالي عندما أيقظني الرجلان اللذان طرحاني أرضًا البارحة، لكنهما اليوم لم يبديا أي تصرفٍ عنيف تجاهي، كما تركاني أمشي بنفسي خلفهما دونما إجبار، أوصلوني إلى مكتبٍ زجاجيٍ يشف عن مختبرٍ خلفه مباشرة، كان ذلك المحامي موجودًا بصحبة امرأةٍ ترتدي معطف المختبرات الأبيض، كانت هذه المرأة موجودةً البارحة أيضًا، لمحتها تخرج مع المحامي عندما تركني تحت رحمة رفيقيه اللطيفين، جلست على الكرسي مقابل المحامي، ابتسم لي ابتسامة لم أستسغها أبدًا قبل أن يقول: “الآن يبدأ التحقيق الفعلي”.


أضف تعليق