04 – تدرّج

|| تدرّج ||


“أعتقد أنه يجدر بنا تقديم الاعتذار عن سوء الاستقبال الذي بدر منا ليلة أمس”.
“تعتقد؟”
“كانت لدينا أسبابٌ اضطرتنا لمعاملتك بقليل من الخشونة”.
“قليل؟ إنني أرى ثلاثة منك أمامي الآن، كما لو أن واحدًا فقط لا يكفي!”.
“كما ذكرت، كانت لدينا أسبابنا”.
“من أنتم وماهي أسبابكم؟”
“لا زلت أنا من يسأل الأسئلة”
“..يمكنك أن تسأل كما تحب، لكنك لن تستطيع إجباري على البقاء و الإجابة”.
كدتُ أنهض من على الكرسي، لكن أحد الرجلين الواقفين خلفي منعني من ذلك.
“لكنني سأبقى احتراما للآنسة اللطيفة..”.
أخرجت المرأة الواقفة صورةً من ملف تحمله وسلمتها للمحامي، الذي وضعها بدوره على الطاولة بحيث أراها بشكلٍ سليم، ثم عدل من جلسته بوضع إحدى ساقيه على الأخرى.
“كنت مع هذه المرأة ليلة مقتلها، صحيح؟”
“نعم”
“ما هي علاقتك بها؟”
“لا توجد أي علاقة”
بقي صامتًا لبرهةٍ وهو ينظر إلي مع رفيقته كما لو كانا ينتظران مني إكمال كلامي، ثم حك أنفه بتملل واستهتار واضحين.
” وُجدت في مسرح جريمة قتل امرأة لا تربطك بها أي علاقة… أهذا ما تقوله؟”
“بالضبط!”
ارتطم وجهي فجأةً بالطاولة بعد أن قلت ذلك مباشرةً، كان علي أن أتوقع فعلا كهذا من شخصٍ لم يتوانى في طرحي أرضًا البارحة، لم أعرف من مِن الرجلين أمسك برأسي وضربه بالطاولة، لكنه عندما شد شعري ليرفع رأسي من جديد، كان الدم يسيل من أنفي، وقدرٌ كبيرٌ من الألم اجتاحني أفلتّ على إثره آهةً لم تساهم في ترميم كبريائي المهدور، بعدها قرّب إليّ المحامي الصورة أكثر.
“أعتقدُ أن ذاكرتك قد تنشطت الآن، هيّا أخبرني بعلاقتك بها، ولا تجعلني أكرر سؤالي مرةً أخرى، فأنا أمقت التكرار”.
أجبته وأنا أغطي أنفي بيدي:
“قلت لكَ لا أعرفها، إنها امرأةٌ مجنونة، ظهرت لي من العدم!”
“العدم؟”
“نعم! اصطحبتني إلى منزلها لتتخذني أخًا لهما.”
“من تقصدُ بلهما؟”
“هي وأخوها الصغير.”
“الصغير.. كم يبلغ عمر هذا الصغير؟”
“أكبر من العاشرة بقليل”
كان واضحًا على ملامحه أنه لم يسمع الإجابة التي يريدها، تبادل النظرات مع من كان ممسكًا بشعري، ثم أفلتني هذا الأخير ليعود ويقتلعني من على الكرسي، أوقفني وثبتني أمامه، ليأتي رفيقه ويلكم بطني لكمةً كانت لتسقطني لولا أنني مثبتٌ جيدًا، انحنيت على نفسي من شدة الألم، ثم رفع الذي لكمني رأسي ليأتي المحامي بعد أن نهض بكياسةٍ من على كرسيه.
“لم يكن لتلك المرأة أخٌ بهذه المواصفات.”
قال هذه الجملة و أدار ظهره لي كما فعل من قبل تمامًا، كان واضحًا لي ما الذي سيحدث تاليًا، لذا بدأتُ أصرخ:
“كان لها أخٌ صغير! أقسمُ لك!”
لم يتوقف المحامي، وأكمل الحملان الوديعان عملهما، كانا يسددان لي اللكمات دون أن يغمض لهما جفن، ولم أعد قادرًا على تحمل الألم! فبدأتُ أسردُ تفاصيل لقائي بالمرأة وأخيها بين اللكمات.
“قابلتها عند… النهر.. كانت برفقة.. أخيها.. الصغير.. في منزلهما بعد.. جدار النجوم.. مباشرةً.. كان لها.. أخٌ..”
يبدوا أن شيئًا من كلامي استوقفه، أمرهما بالتوقف عن الضرب فورًا و عاد يسأل:
“قلتَ نجوم؟”
“نعم… كانت خربشة… على.. الجدار”
“ما هي هذه الخربشة؟”
“كانت دوائر.. صغيرة مصفوفةً… على الجدار.. عندما تصلها ببعضها.. تبدو وكأنها مجموعات نجمية.”
” سمّها!”
” ريغولوس، دراكو، بيلاتركس و سيريوس.”
ظل ينظر إليّ وهو يفكر قليلًا، ثم استقام في وقفته، وضع يديه في جيبه وخرج متبوعًا برفيقته، أما أنا فأخذني الإثنان إلى عيادة تم فيها خياطة جرح شفتي السفلى، تبديل ضماد كتفي وإعطائي بعض المسكنات، بعذها اصطحباني إلى ما يمكن تسميته بالمطعم، ملأا ثلاث صوانٍ بالطعام و وضعا إحداهن أمامي على الطاولة وأخذا يلتهمان ما بصينيتيهما، تنبه لي أحدهما عندما لم ألمس طعامي فتناولت الملعقة سريعا و بدأت في الأكل، كان الطعام لذيذًا، لكنني عانيت قليلًا بسبب جرح شفتي و كدمات وجهي، أما الاثنان فقد عرفت أثناء حديثهما مع بعضهما أن الذي لكمني يُدعى “علاء” و الآخر يدعى ” كمال”، لم يحوِ حديثهما أي معلومة ذات قيمة لي، فهمت أنهما صديقان منذ طفولتهما، ساعدتني عفويتهما في ترك التفكير وإرخاء أعصابي و دفاعاتي، لم تكن الغرفة التي جلسنا فيها ممتلئة، فلم يكن غيرنا موجودًا فيها ما عدا الطباخ، كما كانت الغرفة صغيرةً نوعًا ما، هذا يعني أن مرتاديها قلائل، بعد الأكل و تسليم الصواني، عادا وجلسا بجانبي، بدأ علاء يعتذر عن قسوته مسبقًا، و كرر “كمال” اعتذار “علاء بدوره، لم أعتقد حقًا أنه يمكنني عدم قبول اعتذارهما خاصةً أن “كمال” كان يلف ذراعه على كتفيّ، كان “علاء” يتحدث عن موقف حدث لهما في المدرسة عندما أتاه تنبيه على ساعته جعله يقطع حديثه وينهض هو و”كمال” ويصطحباني إلى غرفةٍ مظلمة تضيئها شاشة مثبتة على الجدار.
كانت تلك المرأة جالسةً على طاولة محاذية للجدار تنتظر مجيئنا، أجلسوني على كرسي صغير بينما جلس “علاء” على كرسي بعيد عن الشاشة قليلًا ووقف “كمال” بجانبه مستندًا إلى الجدار، ساد الصمت على الجوّ قليلًا حتى دخل المحامي، كان قد خرج من مظهر المحامي المحترف، فقد بدّل البدلة الرسمية و ربطة العنق بقميصٍ بسيط مطويّ الأكمام ممّا شمّر عن ساعدين ممتلئين مفروديّ العضلات، أضفى عليه هندامه هذا رثاثةً إلا أنه لم يُنقصه هيبةً و حِدّة، كنا نترقب ما سيفعله و يقوله عندما التقط جهاز التحكم بالشاشة و بدأ يضغط الأزرار.
“أعِد عليّ أسماء تلك المجموعات يا “عمر ” لو سمحت.”
“دراكو، سيريوس، ريغولوس و بيلاتركس.”
“من الجيد أنك تعرف جزءًا مما رأيت”
“ما الذي تقصده بجزء؟”
أهمل سؤالي لبرهةٍ حتى يركز في البحث في شاشته إلى أن توقف عند صور مجموعات نجمية.
” هذه هي المجموعات التي قصدتَها، الأسماء التي ذكرتها كانت نجومًا تنتمي إلى هذه المجموعات، ما عدا “دراكو”، فهي صحيحة.”
“لكنك أخطأت في التعرف على واحدة”
” ما الذي تعنيه؟”
“تلك المجموعة التي في الأسفل، لم تكن على الجدار.”
” ألم تقل سيريوس؟”
“بلى قلت!”
“وهذه هي مجموعة “كانيس ميجور” التي تنتمي إليها “سريروس”.”
“لم تكن مجموعةً كاملة، كانت دائرةً وبجانبها نقطة بحجم الشامة، بدت لي وكأنها ترمز للثنائي النجمي “سيريوس” آنذاك.”
صمتَ قليلًا بعدما لمعت عيناه لما سمعه، ثم أخذ ينظر إلى الشاشة وينقل بصره بين الرسومات كما لو كان يرسم بعينيه، ثم مسح بكفه على رأسه وبوادر الدهشة باديةٌ على ملامحه، وعندما التفت إلى البقية، وجدهم مندهشين معه، كنتُ الوحيد الجاهل لما يحدث، بعد انتهاء موجة المفاجأة والتباريك غير المسموعة، سحب ذو النظارات كرسيه و جلس أمامي و كلمني كما لو كان يخاطب تلميذه.
“بعد الذي قُلتَه، مددنا إقامتك معنا لعدة أيامٍ بعد، سنتحدث معك خلالها كثيرًا، و عند انتهائها سأستمع إلى قرارك”
“أي قرار؟”
“قرارك في تركنا أو الاستمرار معنا.”


أضف تعليق