05 – حقائق منقوصة

|| حقائقُ منقوصة ||

 


“وهل أملك خيارًا حقًا؟”
“ألم أقل ذلك للتو؟”
“قلت “تركنا” ولم تقل “حرية الخروج من هنا سالمًا””.
أطلق “كمال” ضحكة مدوية عندما سمع ما قلت، ثم قال وهو يحاول التقاط أنفاسه:
“لا أصدق أنني لم أتعرف عليك مسبقًا!”.
” عمر، لا أحد سيؤذيك هنا، اطمئن”.
“يقصد “رائد” أن “علاء” و “كمال” لن يتخذا منك كيس ملاكمة بعد الآن!”.
قالت تلك المرأة بعد أن نزلت من على الطاولة التي كانت تجلس عليها، ثم أضافت:
“كما أن باب غرفتك لن يُقفل عليك بعد الآن”.
“جيدٌ جدًا، لكن القرار لا يمكن اتخاذه دون أسسٍ ومعطيات، وأنا إلى الآن لم أعطَ الفرصة حتى لطرحِ أسئلتي، ولم يتكرّم عليّ أحدٌ منكم بتفسيرٍ لأيٍ مما يحدث”.
توسعت عينا “رائد” وانفجر الثنائي خلفي بالضحك، كما أخفت المرأة ضحكتها بمهارةٍ رغم اهتزاز أكتافها، أما أنا فبقيت أنقل نظري بينهم بحاجبٍ مرفوعٍ مستنكرًا ضحكهم على ما قلته.
“حسنًا، عمّ تريد أن تسأل؟”
“من تكون تلك المرأةُ المقتولة؟”
نهض “رائد” وقلب في الشاشة إلى أن ظهرت صورة تلك المرأة.
“اسمها “صفاء” و كانت تعمل محققة، كما هو مكتوب أسفل صورتها.”
“مكتوبٌ أنها كانت مفقودة لمدة أربعة أشهر تقريبًا.”
“نعم.”
“أي قبل قرابة الخمسة أشهر من اليوم، أهذا صحيح؟”
“صحيح، هل تريد التأكد من التاريخ بالضبط أيضًا؟”
“لا، لا حاجة لذلك، وما أمر أخيها الصغير؟”
“ذاك الصبي الذي ذكرته؟”
“نعم ذلك الطفل”.
“”صفاء” لم يكن لها أخٌ بتلك المواصفات”.
“من يكون إذًا؟”
“لستُ متأكدًا”.
“حسنًا إذًا، أين أخوها الذي شبهَته بي؟”
“مفقود.”
“منذ متى؟”
“لا نعلم بالتحديد.”
“وما علاقة المجموعات النجمية بهما؟”
“أمرٌ يطول شرحه ربما أخبرك عنه بعدما أفهم كامل تفاصيله.”
“حسنًا، أخبرني إذن ما علاقة كل هذا بكم؟ و قبل ذلك أودّ لو أعلمتني لأيّ جهةٍ تنتمون ولا تحاول المناورة في الإجابة.”
” نحن لا ننتمي لأي جهة، ولا يمكنني وصف علاقة كل واحدٍ منا بالأمر، فنحن لسنا كيانًا واحدًا كما تعتقد، وقبل أن تسأل المزيد من الأسئلة، اسمحلي أن نتبادل الأدوار قليلًا و أطرح أنا بعض الأسئلة.”
“تفضل لكن لا تكثر رجاءً”
” لمدة سنةٍ كاملة، كنت تركب الحافلة مرتين يوميا ذهاباً وإيابًا، أليس كذلك؟”
“نعم.”
“”إلهام”، ناوليني ما وصلك قبل قليل، لو سمحتِ.”
أخرجت “إلهام” من جيب معطفها جهازًا لوحيًا و سلمته لـ”رائد” الذي رفعه أمامي لكي أرى ما به بوضوح.
” أهذا هو العنوان الذي كنتَ تتردد عليه؟”
“نعم.”
“هل يمكنك إخباري بسبب ذهابك إلى ذلك المكان؟”
“إنه مقر عملي السابق.”
“وهلا أخبرتني لو سمحت ماذا كانت وظيفتك هناك بالضبط؟”
” كنتُ أعدّ تقاريرًا إحصائية.”
“عن ماذا؟”
“لا أعلم.”
” كيف لا تعلم؟”
“لا أعلم! كانت كل البيانات تندرج تحت خانات برموز، لم يتوضح لي شيئًا منها، كنت أحللها دون أن أعرف ماهيتها الحقيقية.”
” وكيف تعمل في مكان لا تدري ما هو نشاطه؟”
” الأجر الذي كنتُ أتقاضاه كان يعادل ثلاثة أجور في أي منشأةٍ أخرى.”
“أراهن أنك لم تتعامل بشكلٍ مباشرٍ مع أي أحدٍ ينتمي لجهة العمل تلك ايضًا.”
“أنتَ محق!”

بقينا صامتين، نفسر لنفسينا نظراتنا لبعضنا، كنتُ أعلمُ أنه يرسم خطةً تكتيكيةً ليهاجم بها دون أن يحرق المزيد من كروته التي أظهرها لي، كما يعلمُ هو أنني لم أسمح له بعد باختراق كل دفاعاتي، مدة بقائي حيًا مرهونةٌ بكمية المعلومات التي يمكنه استخراجها مني، لذا عليّ إيجادُ طريقةٍ للهربِ من هنا قبل أن يغرس سكينه التي يخبئها داخل حذائه في عيني.
استمر في النظر إليّ متعمقًا في تفكيره، وهو يميل بكلتا يديه على الطاولة أمامه، ونظاراته على طرف أنفه، حتى قاطعه رنين هاتفه، أجاب على المكالمة وبعد أن أنهاها هرع إلى الخارج مصطحبًا معه “علاء” و”كمال”، أما أنا فقد تركني في عهدة “إلهام”، قضيت معها وقتًا ليس بالقصير، إلا أنه لم يكن ثقيلًا، فقد أخرجت من أحد الأدراج علبة حلوى كانت قد خبأتها عن “علاء”، وتقاسمتها معي، ألهتني بذكاءٍ عن طرح المزيد من الأسئلة، كانت تتكلم وتضحك مخفيةً ذكائها خلف عفويتها ونظاراتها المستديرة الكبيرة، فتارةً تذكرني بشكلي عندما ضُربت، وتارةً تعلق على أسلوبي في الحديث مع “رائد”، ثم انتقلت إلى “كمال” و”علاء” اللذان يتصرفان بطفولةٍ طيلة الوقت، وكيف تشعر أحيانًا بأنهما أخواها الصغيران، ثم سألتني:
“أليس لديكَ إخوةٌ يا “عمر”؟”
“أختٌ واحدة، لكنني متأكدٌ من أنك تعرفين هذا مسبقًا، فاتركي المناورات عنكِ، الطريق المستقيمة دائمًا أقصر.”
ظهرت ابتسامةٌ على زاوية فمها، أعرف أنني سلبتها متعة الاستكشاف التي كانت تخطط له، لكن تعابيرها أوضحت لي أنها لم تكن غاضبةً أبدًا، بل بدا أنها فرحةٌ بوصولها إلى مبتاغاها بهذه السرعة.
“أنا فعلًا أعرف الكثير عنك، وكما أوضحت لي الآن، لست غبيًا حتى لا تضع في بالك احتمالية بحثنا في ماضيك، وبما أنني من قام بتلك المهمة، أريد أن أقول لك أن شيئًا ما استرعى انتباهي أثناء البحث.”
“غير موضوع جهة العمل؟”
“لا، الأمر الذي أثار حيرتي حدث قبل أن تباشر عملك بكثير.”
تناولت قطعةً أخرى من الحلوى، ثم عدلت نظاراتها بظهر يدها قبل أن تستكمل:
“إدمان والدتك للكحول.”

وخلال رفة جفن، أدركت ما لم أحسب له حسابًا، تسرعتُ عندما حكمتُ على “رائد” بأنه أكثر شخصٍ عليّ أن أحترس منه، اتخذتُ من الصمتِ ملجأً مؤقتًا علّني أجد طريقةً أوجه بها دفة الحوار المتجه إلى ما لا أريد سماعه، قلّبت قطعة الحلوى المغلفة بغلاف لامعٍ في يدي وأنا أسمعُ زنّ الإضاءة، عندما لم تحصل على ردٍ مني، كانت على وشك أن تستكمل حديثها لكن الباب فُتح فجأةً! دخلَ “علاء” بسرعةٍ وتوجه إليّ مقاطعًا حديث “إلهام”، سحبني معه بعد أن استأذن من “إلهام” دون أن ينتظر ردها و أخذني معه.
“إلى أين ستذهبُ بي الآن؟ ولمَ العجلة؟”
“ستصطحبنا إلى مقر عملك السابق”
“لماذا؟”
“لأنه يوم الزيارات!”
“لا تمزح! لن أتزحزح حتـ..”
توقف عن المشي واستدار إلى الخلف فجأةً مما جعلني أصطدم به وأرتدّ إلى الخلف، وعندما نظرتُ إلى وجهه رأيت حاجبه مرفوعًا وينظر إليّ باستغراب، كانت تعابيرُ وجهه كافيةً لأستوعبَ أنني لستُ في موقفٍ يسمحُ لي بالمفاوضات، فطلبت منه الاستمرار في المشي وتبعته بكل أدب.

أضف تعليق