رواسب الكهف وتوق العودة إلى ما قبل الصفر

الروحانية وعوالمها الخفية، تغوي نفوسنا وتشدها للتعمق والتأمل، حتى أنها قد تصل بالبعض لمحاولة استخدامها كأوساط للتواصل ونقل الأفكار ووسيلة للتخاطب..
فبينما استخدم رجل الكهف المحسوس والملموس لإيصال ما يختلج نفسه و لتوثيق أحداث يومه، نشأت لدينا أجيال كونوا لأنفسهم اعتقادًا يقوم على أساس الروحانيات وإيصال الأفكار بالنيات، وتنصلّوا تدريجيًا من اللغة المنطوقة، وعطلوا الدور الرئيسي للسان وأعفوا أحناكهم السفلية عناء الحركة لاستهلاكها الكثير من الطاقة، وامتهنوا الترشيد في التعامل معهما فما عادوا يستخدمون الألسنة والأحناك إلا في علك لحوم بعضهم.
في هذا العصر الحديث، وصل الإنسان إلى مفهوم الاستغناء عن اللغة اللتي طورها هو بنفسه عبر العصور، وكانت بداية هذا الاستغناء في نسيانه كلمة “مرحبًا”، ثم تلتها “شكرًا” و”لو سمحت”، فما عاد لدى الإنسان الوقت ليضيعه على بضع كلمات تطيل الوقت وتزيد كمية الطاقة المستهلكة في التخاطب، ثم طوّر -هذا الكائن المعقّد المستمر في تطوير نفسه ومحيطه- مفهوم اللاكلام، أي استغنى في كثير من مواضع ومواقف يومه عن الكلام الفعلي واستبدله بالنية والتخاطب الذهني، حتى أصبح الكلام الفعلي بعباراته البسيطة مثل “شكرًا” و”لو سمحت” يمكن تجاهلها وعند استخدامها أحيانًا تعتبر شتيمة وإهانة لذات الشخص الذي توجه إليه.
مفهوم اللاكلام سهل جدًا لذا تشربه المجتمع بسرعةٍ وقام بتفعيله بكغاءةٍ ونجاح دون تدريب، فهو لا يحتاج للكثير، كل ما يحتاجه الإنسان لتطبيقه هو أن يكف عن الكلام في مواضع الحاجة للكلام، ربما يكون هذا الأمر غامضًا قليلًا في البداية لكنه موجود ويمكن رؤيته في كل مكان، ويتضح جليًّا بضرب أمثلةٍ من الحياة اليومية.
من أوضح الأمثلة التي تظهر لنا هذا المفهوم؛ سلوك مراجع في عيادةٍ طبية..
أولًا يدخل المراجع وفي صدره همّ المرض وفي عقله خطة الحصول على العلاج، هذا الإنسان البائس الذي يسعى للتطور في كل نواحي حياته، يقف أمام موظفة الاستقبال، ويقوم بالتحديق في عينيها الكحيليتين لا لشيءٍ سوى رغبته في إصال هم قلبه وخطة عقله إليها، لكن تلك الموظفة.. ذلك الكائن البدائي!.. لا يزال يعمل على الإصدار اللغوي القديم.. لذا تستغرب نظرته وتطالبه -بالخطاب اللغوي القديم طبعًا!- وتحاول استنطاقه لتفهم منه وتعلم منه كيف تستطيع مساعدته لكي تؤدي عملها، هنا يحدث التصادم ويبدأ صراع الحديث والقديم وينتج عن ذلك خلافُ كبير يتطلب تدخل وسطاءٍ تحاول أدمغتهم العمل بالنظامين القديم والجديد، فتتوسع الحفرة وتتعمق أكثر فأكثر، ثم ينتهي الأمر بلوم الطرف الأضعف طبعًا! والذي يكون هو الموظفة البدائية، وهذا المثال قائمٌ حتى ولو تم عكس الأدوار وتمثل الكائن البدائيّ في المراجع وتمثّل المتطور في موظف الاستقبال..
بالرغم من الوقت والجهد المبذولان للبحث عن النظام اللغوي الجديد ومحاولة تثبيته، إلا أنني لم أفلح أبدًا في سبر أغواره والإبحار في خباياه للحد الذي يخولني لاستخدامه في التواصل مع هذه الكائنات المتطورة..
جل ما أطمع به هو أن ترأف بنا هذه الكائنات و تنزل قليلًا إلى مستوانا البدائي, فقد ضاقت نفوسنا ذرعًا بهم وبروحانياتهم السقيمة!

أضف تعليق